تقليص القبول الجامعي- رؤية قاصرة أم حلول مبتكرة؟
المؤلف: محمد العصيمي08.08.2025

في ذروة الشتاء، فاجأنا وزير العمل الجديد، الدكتور علي الغفيص، بتصريح غير مُبهج يستدعي إلى الخاطر خفض القبول في الجامعات إلى 50%. تصريح باهت، لا يحمل ومضات أمل ولا يبشر بفهم عميق لمتطلبات عصرنا العلمية والعملية. هذه المتطلبات التي استوعبتها دول كانت في ذيل القائمة التنموية والاقتصادية، لتصبح اليوم في طليعتها، جنباً إلى جنب مع الدول المتقدمة، بفضل الاهتمام والعناية الفائقة التي أولتها للتعليم العالي، مناهجه، معامله، أبحاثه، وطلابه. اسألوا سنغافورة، ماليزيا، كوريا الجنوبية، البرازيل، والهند؛ هذه الدول تعتمد الآن على ذاتها، صناعاتها، ووفرة مواردها الوطنية بعد أن تحولت شعوبها إلى قوى مُبدعة ومنتجة بفضل النهضة الشاملة في منظومتي التعليم العام والعالي لديها.
كان المواطنون، أولياء الأمور والطلاب على حد سواء، يترقبون تصريحاً مغايراً، يحمل في طياته بشائر الأمل، لكنهم فوجئوا بما هو أسوأ من التصريحات السابقة، تصريح لا يرقى لمستوى وزراء سابقين، الذين أرسوا دعائم التعليم الجامعي ووسعوا آفاقه واستوعبوا ضرورة تنويعه وتعدد مؤسساته وتخصصاته. لذلك، لم يستوعب الذين صدمهم هذا التصريح ما يصبو إليه الوزير الجديد، الذي يبدو أقل طموحاً في رؤيته للتعليم الجامعي من طلاب صغار يتوقون إلى ارتياد الجامعات والدراسات العليا، التي تتسابق إليها أمم العالم وتتباهى بوفرة طلابها وتنوع تخصصاتها العلمية، التي يضاف إليها يومياً تخصص جديد يتوافق مع احتياجات أسواق العمل المتجددة.
بمعنى آخر، الدول الطموحة تبتكر تخصصات ومساقات تعليمية جديدة في كل يوم، بينما نحن أمام وزير يرى أن المساحات الجامعية متسعة أكثر من اللازم، ويريد تقليصها، في حين كان الأولى به أن يدرس كيف يستثمر المساحات المتاحة استثماراً علمياً حقيقياً، وأن يضيف إليها مساحات أخرى تنسجم مع مستجدات العصر ومتطلبات أسواق العمل المتغيرة.
أما إذا كان الدكتور الغفيص يرى في تصريحه المثير للدهشة أن التعليم الفني والمهني هو البديل الأمثل للتعليم الجامعي وملاذاً آمناً لمن لم يتمكنوا من الحصول على مقعد في الجامعة، فليصارحنا، وهو الذي أدار منظومة هذا التعليم لسنوات طوال، ماذا قدم التعليم الفني والمهني لسوق العمل، الذي يئن تحت وطأة العمالة الوافدة والمتسترين الذين اقتحموا هذا السوق عنوة. ما أعرفه يقيناً أنه فيما عدا خريجي الكليات الفنية والمعاهد المهنية الذين يتم توظيفهم من قبل شركات كبرى تعيد تدريبهم على الوظائف التي تحتاجها، فإن هذا التعليم يعاني من ضبابية في الرؤية، تخبط في الخطط، وعدم وضوح في مصائر الخريجين من الشباب والشابات.
لذلك، أرى أنه من السهل بمكان أن تقدم مبررات واهية وتطلق تصريحات حول تقليص القبول في الجامعات للتخلص من أعباء ميزانياتها والتهرب من شكاوى المواطنين حول عجز هذه الجامعات عن استيعاب أبنائهم وبناتهم. لكن يجب أن يعلم الجميع أن مثل هذا الإجراء يكشف عن ضعف مزمن في رؤية منظومة التعليم والعمل لدينا، ويدل على أن الوزراء الحاليين يبحثون عن حلول مؤقتة لتسكين المشاكل بدلاً من معالجتها جذرياً.
النهضة التنموية الشاملة تتطلب همماً عالية وسعياً متواصلاً، وهذا ما لا يستطيع القيام به من ارتضى أن يقتنص أسهل الحلول في إصلاح قطاعات العمل، بتقليص القبول في الجامعات بدلاً من توسيعها وتطوير مخرجاتها. إنه كمن تجنب طريقاً وعراً يوصله إلى الهدف المنشود واختار طريقاً سهلاً، بصرف النظر عما إذا كان سيقوده هذا الطريق إلى غايته أم لا. المهم عنده أنه الأسهل. وهذا هو عين الخطأ، سواء نظرنا إليه من زاوية شخصية أو من زاوية تنموية شاملة.